Wednesday 21 September 2011

النظام السوري والعلاقات الدولية : القسم الرابع : تركيـــا

Flag of Turkey , VectorImage via Wikipedia







القسم الرابع : تركيـــا



          بقيت العلاقات بين تركيا وسورية متوترة وسيئة طيلة النصف الثاني من القرن الماضي . ففــي العام 1957 هددت الحكومة التركية بغزو سورية إستياءا من موقف الحكومة السورية الوطنية آنــــذاك  ضد المشاريع الإستعمارية الغربية وخاصة حلف بغداد الذي كانت تركيا عرابته الرئيسية. ولـم يثـــــن تركيا عن تنفيذ تهديدها سوى التدخل السوفييتي الحازم ، الذي حشد قواته على الحدود الشمالية لتركيـــا
وهدد هو الآخر بعمل عسكري ضد تركيا . وعلى مدى ثلاثة عقود تالية كان التوترالعسكري مسيطـــرا
على الحدود المشتركة . كان هناك زرع متبادل الألغام ، وإشتباكات محدودة بين حرسي حدود الطرفين وتوغلات للدوريات التركية ضمن الأراضي السورية بذريعة مطاردة بعض المطلوبين .
          وفي أواخر سنوات المقبور حافظ الأسد ، إنفجرت أزمة حزب العمال الكردستاني بين البـــلدين وهدد رئيس الوزراء التركي بإحتلال سورية . لكن الأسد تراجع بنذالة وطرد" أوجلان" خارج سورية الأمر الذي أدى لإعتقاله فيما بعد ، ولا يزال حتى الآن نزيل السجون التركية . كما طرد الأسد جميــــع مقاتلــي حزب العمال إلى شمال العراق ، مما سمح للقوات التركية  بشن حملة عسكرية عليهـم داخــــل الأراضــي العراقية وقتل معظمهم .
         ولا ننسى بأن إستيلاء تركيا على لواء" إسكندرون" أيام الإنتداب الفرنسي عام 1937 كان دوما
مثار خلاف شديد بين الدولتين والشعبين منذ ذلك التاريخ . وكان مصدرا للتوتر المتواصل ، وجمـــــرا تحت الرماد قابل الإشتعال في أي لحظة .
         مع مطلع القرن الحالي ، حصل الإنفراج في العلاقات بين البلدين . وكان ذلك بتأثير عامليــــن : موت الأسد ، وإستلام حزب العدالة والتنمية ، برئاسة " أردوغان " للسلطة في تركيا . وخـلال سنوات قليلة تحول الإنفراج إلى علاقات سياسية متميزة ، سرعان ما إمتد تأثيرها  إلى المجــالات الإقتصاديــة  والتجارية والسياحية وغيرها . وكان واضحا إن تركيا تريد أن تلعب دورا بارزا في المحيط الإقليمــي  وخاصة مع بدء تدهور علاقاتها التاريخية مع إسرائيل بعد حادثة السفينة مرمرة .
          وقد نجح أردوغان في فك العزلة الدولية الخانقة التي أحاقت بالنظام السوري في أعقاب إغتيال  الحريري ، وبذلك تمتع النظام المجرم بدعم وتأييد أكبر قوتين إقليميتين في المنطقة ، إيران وتركيا مع  التنويه بالفارق الكبير من حيث الحجم والنوع والمصالح المتبادلة بين الدعمين .
         مع إنفجار الثورة السوريـة ، دخلت العلاقات السورية – التركية في طور جديد ، ومأزق كبير .  وتأرجحت صعودا وهبوطا في أوقات متقارية ، وتأزمت بمرور الوقت وتزايد إجرام النظام . حتـــــى وصلت إلى طريق مسدود ، وحالة شبه إنقطاع .
        وقد إعتقد أردوغان في البدء ( وهذه خطيئة تقدير لا تغتفر لسياسي حاذق وأريب مثله ) وبما له  من دالــة ومونــة شخصية على السفاح رئيس النظام السوري ، أن يلعب دور الناصح والموجـه والأخ الأكبر. وأخذ يوجه الرسائل ، ويرسل الوفود ، ويستقبل مثلها ، مركزا على ضرورة إجراء إصلاحات فعلية والتخلي عن خيار العنف في مواجهة الثورة . لكن آذان النظام المجرم بقيت صماء ، لا بل صرح رئيسه ، بغروره المعروف وغباءه المعهود ، بأنه يوجه النصائح للآخرين ولا يتلقاها .
        كانت خطيئة أردوغان تتمثل في أنه لم يدرك أن النظام المجرم غير راغب ، بل عاجز عن القيام  بأي إصلاحات فعلية حقيقية . وأن المجرم رئيس النظام يعرف جيدا ، رغم قلة فهمه وقصر بصيرته ، أن أي إصلاحات من هذا النوع لن تؤدي في النهــاية إلا إلى زوال النظام . وهو ما وضح عنـه منـذ أن وأد ربيع دمشق في بدايات حكمه أوائل العام 2001 . 
       وكان على أردوغان أن يدرك أيضا أن رئيس النظام ، رغم أنه الحاكم المطلق وصاحب القــــرار الأول والأخير في سورية ، وأن كل المؤسسات الأخرى في الدولة ، بما فيها الحزب الحاكم والسلطـــة التنفيذية والبرلمان والمنظمات الشعبيـة والجبهـة التقدمية وغيرها ، ليست سوى أطارات فارغـــة مـــن المضمون ، عديمة السلطة والجدوى ، ليس لها إلا أن تؤمر فتطيع . إلا أن أمرا واحدا يخرج عن هـــذا السياق ، ولا يخضع لسلطة الديكتاتور ، وهو التفريط بوجــــود النظام ، أو حتى بتهديد إستمراريته .
       ذلك أن النظام المجرم أنشأ خلال أربعة عقود من السنوات ، وعلى عهدي السفاحين الأب والإبن منظومة سلطوية جهنمية بالتركيبة المعهودة من " تحالف السلطة والثروة " تقوم على ثلاث ركائــــــز أساسية : الطائفية والفساد والقمع . حقق أفرادهــا ، وهم يعدون بعشرات الآلاف ، نفوذا غبر محــدود ، ومنافع هائلة ، وراكموا ثروات خيالية ، وأصبح مصيرهم ووجودهم مرتبط بكل هـذا ، وبات مستحيلا عليهم التخلي عن كل تلك المكتسبات غير المشروعة لأي سبب من الأسباب .
       هذا ما لم يدركه أردوغان في البداية ، أو لعله إعتقد أن دواعي المصلحة التركية تتطلب تجاهلــه لكن تركيا كانت على أعتاب إنتخابات برلمانية بالغة الأهمية لحزب العدالة والتنمية ، ولأردوغان على وجه الخصوص شخصيا . وكانت إستطلاعات الرأي العام التركي تشير بشكل مؤكــد إلى فوز الحزب فيها ، وضمان إستمراره في الحكم . لكن أردوغان كان يتطلع إلى ما هو أبعد من ذلك . كان يطمح في الحصول على أغلبية الثلثين التي تتيح له تعديل الدستور وتحويل النظام البرلمـاني التركي إلى نظــــام  رئاسي ، يصبح فيه رئيس الجمهورية رئيسا للسلطة التنفيذية ، كما هو الحــال في كل من الولايــــات المتحدة وفرنسا ، وهذا ما يتيح لــه لاحقـــا تسنم منصب رئاسة الجمهورية المنشود .
      وكان أردوغان يدرك أن غالبية الشعب التركي تؤيد الثورة السورية ، وتستنكر حملة التنكيــــــــل والقمع التي يرتكبها النظام النجرم بحق الشعب الأعزل . لذلك بدأ حملة من التصريحات الغاضبة ضد  النظام بلهجة نارية ومتصاعدة حتى إنتهت الانتخابات ، فعاد إلى لهجة أخف ومعتدلة بعض الشيء .          لكن لا ننسى أن تركيا إستضافت معظم مؤتمرات المعارضة السورية ، وفتحت ذراعيها لعشرات الآلاف من المهجرين السوريين ، وقدمت ( أو سمحت عن طريقها بتقديم ) الكثير مــن التسهيــــــلات  اللوجستية والمساعدات العينية والمادية لثوار الداخل . وتلعب دورا حيويا في المشاورات الدولية مــن  أجل  تشكيل جبهـة موحدة ضاغطة على النظام المجرم . وينتظر منها المزيد في المستقبل القريب .
      يتعرض الشعب السوري الأعزل منذ ستة أشهر ، ولا يزال ، لأفظع مذبحة دموية في تاريخـــــه  الحديث ، والثورة المباركة ماضية في طريقها بكل عزم وتصميم ، وسينتصر الثوار الأبطال في نهاية الأمر لا محالة ، رغم التضحيات الهائلة والصعوبات البالغة ، وسيسقط النظام المجرم ويزول حتمــــا  وبكل تأكيد ، رغم القمع والإجرام ، لكن ذلك سيكون بأثمان باهظة ، وتكلفة بشرية عالية .
      فهذا النظام ماض هو الآخرفي وحشيته وبربريته وإجرامه ، لا تردعه التصريحات ولا الإدانـات  ولا العقوبات ، وقد يسقط عشرات الآلاف من أبناء هذا الشعب قبل سقوط النظام . وهو لا يفهــم سوى  لغة القوة ، ولن يردعه عن إجرامه سوى التدخل العسكري الدولي الحازم . وإذا كان هناك ثمة أمل في حدوث ذلك التدخل ، فلن يكون إلا من قبل تركيا أو عن طريقها أو بالإثنين معا .
      لذلك أقول : لا تقطعوا الأمل من تركيا ، ولا داعي للتسرع في توجيه الإتهامات والإنتقادات ، ولا  جدوى في الإستماع للأخبار الملفقة التي يروجها عملاء النظام السوري المجرم عن تواطؤ تركي ما ،  بغية خلق شرخ في الثقة بين الشعب السوري والسلطة التركية ، والنظام السفاح يدرك ، قبل أي أحـــد  آخر، مدىالإحتمالية الفعلية والخطورة الجدية من قيام تركيا بدور فعال في جهد عالمي منسق وبالقوة  لردع هذا النظام الوحشي المجرم . يتعزز ذلك ، قبل كل شيء ، بالعوامل الجيو – سياسية الراهنة التي
تجعل من تركيا اللاعب الأهم في أي محاولة لردع النظام السوري المجرم .
        بدلا من أن نلعن الظلام ، لنشعل شمعة . وبدلا من الإنتقــادات والإتهامـات وتصديق الإشاعــات
المغرضة ، لنرفع الصوت عاليا بالنداء للحكومة التركية والشعب التركي الجار بالتدحل الفوري الحازم فـي  الشأن السوري ، شاكرين لهم كل ما تقدم من الفضل .


في 20/9/2011                                                   العميد الركن المتقاعد  عقيل هاشم 
               
Enhanced by Zemanta

No comments: